أربعة أشياء ينبغي مراقبتها في عصر ”إعادة صياغة العولمة“

تقول رئيسة منظمة التجارة العالمية، نجوزي أوكونجو – أيويالا ، إننا قد دخلنا الآن عصر ”إعادة صياغة العولمة“، وتعني بهذا أن الشركات قد بدأت تتبنى اللامركزية في عمليات الإنتاج لكي تتجنب مخاطر اضطراب سلاسل الإمداد التي سببتها جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا.

فقد أصبحت الشركات تفضّل إمكانية التكيف والصمود عن عامل التكلفة المنخفضة لاعتقادها أن اختلال شبكات الإمداد سوف يستمر لوقت ليس بقصير وعليه، تريد حماية نفسها من الصدمات التي قد تقع في المستقبل. وتقول أوكونجو – أيويالا إن ذلك جعل الشركات تعمل على إعادة تشكيل تواجدها العالمي وإعادة بناء شبكات الإمداد الخاصة بها.

وتثير عملية إعادة صياغة العولمة الكثير من الأسئلة الهامة، منها:

من المستفيد؟

ترى أوكونجو – أيويالا أن هذا التوجه يمكن أن يعود بالنفع على الدول النامية، حيث تقول ”إنه يمكن أن يُدخل تلك الدول في المسار الرئيسي للعولمة“، وتضيف، في منظمة التجارة العالمية نرى أن هناك فرصة واضحة لانتهاج سياسة اللامركزية والذهاب إلى الدول التي لا تستفيد عادة من سلاسل الإمداد العالمية، والتي يمكن لها الآن الانضمام إليها.

وحتى الآن يلاحظ أن الشركات التي توقف أنشطتها في الصين وفيتنام ودول إنتاجية آسيوية أخرى أصبحت تتجه نحو مراكز الإنتاج الإقليمية القائمة والعودة إلى مواطنها الأم بدلاً من إنشاء مراكز جديدة لها في أسواق أخرى تعتقد أنها تنطوي على مخاطر أكبر ولم يتم اختبارها قبل الآن. على سبيل المثال، نرى أن دول مثل الهند وتركيا وإسرائيل والمكسيك باتت تقدّم أنفسها كمراكز إنتاج بديلة للسلع والأثاث المنزلي، واستطاعت بذلك جذب شركات مثل Overstock و La-Z-Boy، وغيرها من الشركات التي تسعى لإنشاء خطوط إمداد جديدة بعد أن عانت من فترات تأخير طويلة ومتكررة في الموانئ الآسيوية.

لا شك أن إلغاء مركزية الإنتاج والعمل على الوقاية من الصدمات المستقبلية تخلقان معضلات وتحديات خاصة بهما، وفي أحيان كثيرة، لا تكون المشكلة مرتبطة بالتجميع النهائي للمنتج ولا القرب من السوق لكنها تكون بالقدر الأكبر مرتبطة بإمكانية الوصول إلى المواد الخام والقرب من الموردين. وقد استثمرت شركات التكنولوجيا المتقدمة أموالا كثيرة لإنشاء مرافق إنتاج جديدة في الهند فقط لمواجهة الاضطرابات هناك. على سبيل المثال، واجهت كل من Foxconn وWistron مشاكل عمّالية، كما اصطدمت شركة Apple بمشاكل لوجستية وسياسات تصدير غير مواتية.

وهناك فجوة واضحة بين ما يرغب الرؤساء التنفيذيون في القيام به وما سيقومون به بالفعل. وفي هذا الصدد أوضح استبيان أجرته الشركة الاستشاريةKearney ، أن 70% من الرؤساء التنفيذيين في الشركات الإنتاجية الأميركية كانوا يدرسون نقل مرافق الإنتاج الخاصة بهم إلى المكسيك، إلا أن فقط 17% من تلك الشركات قد قامت بذلك بالفعل.

من المتضرر؟

Re globalization china

في سنة 2019، كانت حصة الصين تقدر بنحو 29% من التصنيع العالمي، ومن الواضح أن الجهود التي تبذلها الشركات للانتشار والابتعاد عن مركزية الانتاج، ومن شبه المؤكد أنها ستقوم بذلك على حساب الصين ومن المحتمل، بالتبعية، أن هذا التوجه سيلحق الضرر بمراكز التصنيع في جنوب شرق آسيا مثل فيتنام وتايلاند وإندونيسيا وماليزيا.

ثم أن الصراع الروسي لأوكرانيا يلحق خسائر جمّة لكلا البلدين، فالمشترون العالميون للحبوب والأسمدة والمعادن الروسية تدافعوا للبحث عن موردين جدد، ويمكن أن يجعل الكثيرون منهم هذه الترتيبات الجديدة دائمة بالنظر إلى العقوبات الدولية الكبيرة التي تستهدف روسيا حالياً. وهكذا أيضاً، العملاء الذين كانوا يشترون السلع الزراعية وقطع غيار السيارات من أوكرانيا قد انتهى ما كان لديهم من مخزون وقد يتخوفون من الاعتماد على أوكرانيا في المستقبل.

وفي هذه الأثناء نرى الضغوط التضخمية التي نتجت عن جائحة كورونا والنزاع في أوكرانيا قد اتسع نطاقها لتصل إلى أماكن غير متوقعة. على سبيل المثال، قامت إندونيسيا التي تورد 60% من زيت النخيل في العالم بوقف كافة صادرتها في أواخر شهر أبريل وبرّرت هذا الإجراء بالقول إن الإندونيسيين لم يعد بإمكانهم تحمل تكاليف زيت الطهي وذلك بسبب الارتفاع الحاد في الطلب العالمي على الزيوت الغذائية نتيجة لتوقف توريدات زيت عباد الشمس من أوكرانيا.

هل العالم آخذ في التقلص؟

الكثيرون يرون أن هذا ما يحدث بالفعل.

في كلمته السنوية لمساهمي الشركة، حذّر لاري فينك رئيس شركة BlackRock، مؤخراً من أن: ”الغزو الروسي لأوكرانيا قد أنهى العولمة التي عرفناها على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. فقد شاهدنا بالفعل أواصر الارتباط بين الدول والشركات وحتى بين الناس تتأثر بشدة على مدار العامين الماضيين بسبب جائحة كورونا، والتي تركت العديد من المجتمعات والشعوب تشعر بالعزلة ودفعتها لتبني الانكفاء على الداخل.“

ومن جهته توقع أدم بوزن، رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، أن ينقسم الاقتصاد العالمي إلى كتل مختلفة، ”تحاول كل منها عزل نفسها عن غيرها ثم تعمل على تقليص تأثير غيرها عليها“، ويتوقع أنه ”على خلفية تراجع التراتبط الاقتصادي، أن يشهد العالم تباطؤ  في اتجاهات النمو والابتكار.“

لعل التوتر بين الصين والولايات المتحدة وشركائها التجاريين في أوروبا يعني أننا بدأنا نشهد تكوّن التكتلات الاقتصادية المتنافسة، وقد تحدثت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، مؤخراً، عن الحاجة إلى ”دعم الأصدقاء“ ونقل عمليات الإنتاج إلى الدول ”التي نعلم أن بإمكاننا الاعتماد عليها“، وحذّرت من تمكين دول معينة من اكتساب مراكز مهيمنة على مواد أولية رئيسية وتقنيات ومنتجات أخرى يمكن أن تسمح لهم بتعطيل اقتصاد الولايات المتحدة.

وفي هذا السياق، تقول شركة Whirlpool المصنعة للأجهزة المنزلية، إنها تستعد لعالم ”أقل عالمية“، فالشركة تقوم حالياً بإعادة النظر في أعمالها في كل من أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، وتعيد تقييم خليط منتجاتها وعلاماتها التجارية.، ويقول رئيسها التنفيذي، مارك بيتزر، لقد أدركت الشركة تراجع المميزات التي يمكن أن تحققها على الصعيد العالمي  وارتأت تحقيق المزيد من الفوائد من خلال بناء قوتها في دول ومناطق بذاتها.

هل تضر إعادة صياغة العولمة بالاقتصاد العالمي؟

Re globalization global economy

ليس بالضرورة، فسلاسل الإمداد دائمة التغير والتطوّر، وهذا أمر جيد للاقتصاد العالمي، وإذا ما تركنا جائحة كورونا والنزاع في أوكرانيا جانباً، هناك تغييرات هيكلية كبيرة تجري اليوم والكثير منها يمكن أن يساعد على تحقيق عالم أنظف وأكثر عدلاً وازدهاراً.

فشركة BlackRock على سبيل المثال ترى أن ”التحولات الدائمة تطلق العنان لفرص النمو المتسارع“. وأحدهما هو زيادة القدرة الشرائية لجيل الألفية – لا سيما في الأسواق الناشئة. ”لقد دخل جيل الألفية في السنوات الأخيرة ذروة إنفاقه وفي هذا الصدد يوضح أليكس إلدمير من شركة BlackRock أن “مستهلكي الأسواق الناشئة وجيل الألفية يقودون أكثر من 50% من الإنفاق العالمي.

وتصف شركة ماكينزي هذا التحول بتغير جغرافية الطلب. فالطبقة المتوسطة الصاعدة في البلدان الناشئة أصبحت مسؤولة عن تزايد الاستهلاك بصورة مرتفعة. وتقول ماكينزي إن الأسواق الناشئة ستستهلك ما يقرب من ثلثي السلع المصنعة في العالم بحلول عام 2025؛ كما ستشكل البلدان النامية أكثر من نصف الاستهلاك العالمي بحلول عام 2030، مما يشير إلى دورها المتزايد في تدفق السلع والخدمات والتمويل والأشخاص والبيانات.

ويجب الأخذ بالاعتبار أن هذا التحول في الطلب والذي بدأ قبل ثلاثة عقود من الزمن في الصين وجيرانها في جنوب شرق آسيا، يقف الآن في أولى بداياته في الهند وأفريقيا والشرق الأوسط، علماً بأن الشباب يشكلون نسبة عالية جداً من شعوبها ومتعطشون لفرص العمل التي من شأنها رفع مستويات المعيشة وتعزيز التواصل والارتقاء.

وفي الوقت ذاته، ترى شركة BlackRock أن القواعد التنظيمية والتكنولوجيا الحديثة وطلب المستهلكين من شأنها أن تقود ”نهضة صناعية“ قوية تعتبر في بدايتها. وفي مجال سلاسل الإمداد الذي يتضمن المنصات الرقمية، تساهم تقنيات الذكاء الصناعي وسلسلة الكتل وإنترنت الأشياء وأتمتة عمليات التصنيع، والطباعة ثلاثية الأبعاد، في خفض تكلفة الخدمات اللوجستية والإنتاج بصورة كبيرة.

وأخيراً، وعلى نطاق أوسع سوف يدفع ”الوعي المناخي“ والتوترات الجيوسياسية باتجاه حدوث ثورات في مجالات الطاقة والمواد، الأمر الذي سيغيّر أوجه حياتنا على كافة الأصعدة من طريقة التنقل وتناول الطعام إلى أماكن المعيشة والملابس التي سنرتديها.

وستكون العولمة نتاج لما نقوم بإعادة صياغته